عند زيارتك لمنازل دمشق التراثية أو مساجدها وكنائسها القديمة فمن المؤكد أنك سترى آثار حرفة الخيط العربي التي تستمد مفرداتها الهندسية من الفنون التراثية التي يدخل الخشب في تصنيعها، والتي باتت عبر الزمن جزءاً أصيلاً من العمارة الدمشقية بهويتها وثقافتها باعتمادها على الخامات المحلية والإبداع السوري المتمثل بخبرة حرفيين حافظوا على هذه الحرفة، وأورثوها لأبنائهم على مر الأجيال.
ما هي حرفة الخيط العربي؟
الخيط العربي عبارة عن تعشيق بين نوعين من الخشب، الجوز البلدي ونوع ثان كالسنديان أو السويدي أو الكندي المائل لونه إلى الأصفر، حيث يتم رسم الشكل الهندسي المطلوب، ولصق قطع الخشب عليه من دون خلطه بأي ألوان، والاكتفاء بلون الخشب الطبيعي يضاف له بعض المواد الحافظة.
نشأة حرفة الخيط العربي..
ظهر الخيط العربي في العصر الأموي، حيث صمم الحرفيون أشكالا هندسية من الخط المستقيم والدائرة والمثلث، وحمل اسم العربي لأن العرب هم من وضعوه، رغبة منهم في تزيين المساجد والقصور الأموية، وانطلقوا في تصاميمهم من وضع نقطة واحدة تكون قطراً في دائرة هندسية، ترتبط بخطوط “الخيط العربي” لتشكل تناغماً هندسياً بين بعضها، منها المسدس والمثمن والمعشر والاثنا عشري، ويمكن أن تصل إلى 24 خطاً.
وكان أول أشكال الخيط العربي قديماً عبارة عن تعشيق للقطع المتداخلة فراغياً من وجهين، ولاحقاً تطورت من خلال إدخال أساليب وأصناف حرفية أخرى كإدخال الصدف أو النقش أو الحفر لتزيد من جماله.
جهاد الدهان مهندس نقل الحرفة للأجيال…
من بيت الشرق للتراث وسط حي الميدان الدمشقي، والذي قدمته مؤسسة الوفاء التنموية لأصحاب الحرف التراثية، ليكون مكانا لعملهم وللحفاظ على حرفهم من الاندثار، التقت مراسلة سانا مهندس الخيط العربي جهاد الدهان وهو لقب أعطاه إياه محبو وشيوخ كار هذه الحرفة لأن الدهان ورث هذه الحرفة عن أبائه واجداده إضافة لدراسته الهندسة المدنية، والتي من خلالها قام بإضافة الكثير من الأمور لتطوير هذه الحرفة.
وكانت لعائلة الدهان إسهامات كثيرة في مجال الخيط العربي على الصعيدين المحلي والخارجي، فداخلياً ساهموا بترميم سقف الجامع الأموي وتنفيذ الشبابيك فوق المحراب بالزجاج المعشق، إضافة إلى ترميم محطة الحجاز وتصميم لوحات فسيفسائية في قصر الشعب يزيد طولها على 450 م، وقاعة الشرف بالشيراتون، وخارجيا ساهم المهندس الدهان بتزيين مؤسسات وقصور عربية في مصر والأردن ولبنان وغيرها بالخيط العربي الدمشقي.
تصميم الباب المعشق بخشب الجوز..
شكل الباب قطعة أساسية ترسخت فيها حرفة الخيط العربي في المنازل والقصور التي زينتها هذه الحرفة، فهو كما يوضح الدهان أول ما يواجه ساكني المنزل وضيوفه عند دخولهم وآخر ما يروه عند خروجهم، لذا كان له أهمية خاصة عند تطبيق حرفة الخط العربي عليه، حيث يتم اختيار ألواح الخشب المتينة بقياساتها وقوتها العالية وقدرتها على امتصاص غاز الكربون من الجو، ما يزيد من عمر الباب وحسن استدامته، ثم تصميم القطع الصغيرة للتزيين بدقة وجمالية لتشكيل الرسمة المطلوبة، من خلال استخدام نفس الطريقة القديمة المعتمدة وهي التركيب والتدكيك، فيتم تثبيت القطع ببعضها على وجهي الباب بدقة متناهية، مشيراً إلى أن إنجاز الباب المعشق يستغرق الكثير من الوقت والجهد حتى نصل إلى الشكل المتناسق المراد إنجازه.
صعوبات وتحديات تواجه حرفة الخيط العربي..
عمل الدهان جاهداً مع بيت الشرق للتراث على استقطاب فئة الشباب والراغبين بتعلم هذه الحرفة، لكنه يوضح أن الإقبال عليها ضعيف بسبب التكلفة العالية للمواد الأولية، وصعوبة الحصول على المواد الخام والأساسية، وميل الكثيرين للصناعات الحديثة، مضيفاً: من التحديات الحالية أيضاً عدم قدرتنا على المشاركة بالمعارض الخارجية بسبب التكلفة العالية، لذلك اقتصرت مشاركتنا على المعارض الداخلية التي ينفذها بيت الشرق للتراث كمعارض الحرف اليدوية والبازارات ومعرض الزهور.
ورغم الصعوبات يستمر الدهان وزملاؤه بالسعي للحفاظ على حرفة الخيط العربي إيماناً منهم بأهميتها في الحفاظ على الهوية الحضارية لدمشق وأهلها، ولكونها جزءاً أساسياً من الصناعات اليدوية والتراثية السورية، وتحمل في طياتها مجالاً خصباً للإبداع والابتكار.