" المثالية " تحكم على الجيل الجديد بالعجز
  • 2024-09-26

عندما نسمعُ كلمة "المثالية"، تأتي إلى ذهننا مباشرة صورة افتراضية متكاملة، كلّ شيء على ما يُرام، كلّ شيء تحت السيطرة، لكن في الحقيقة أنّ هذه الصورة مخادعة، وهمية، وليست حقيقية، هناك وجه آخر بشع وكريه لهذه المثالية.

الحقيقة هي أنّ المثالية تعني في علم النفس رغبة الفرد الشديدة وسعيه الدائم للكمال والخلوّ من الأخطاء والعيوب، حيث تترافق هذه الرغبة مع تقييمٍ ونقدٍ للذات، ومخاوفٍ بشأن تقييماتِ الآخرين.

مثلاً: إنّ ضرورة أن يكون المرء هو الأفضل والمُبهر دائماً هي فكرة تجتاح عصرنا وخاصة مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي وسعي الإنسان لأن يكون الملفت ويمتلك الأحدث والأجود، لعلّ الكثير من المشكلات التي نواجهها في حياتنا اليومية هي ناتجة عن السعي لتحقيق الكمال والنظر للحياة من زاوية واحدة، فالشابّة تفشل في إسعاد نفسها ومَن حولها بسبب سعيها الدائم لتحقيق الكمال وأنْ تظهر في صورة مثالية، والشاب قد يصل لمرحلة اليأس بسبب نظره لمن حوله وشعوره بالعجز والنقص على الرغم من امتلاكه العديد من الأشياء ولكنّه فقد القناعة، أما بالنسبة للموظف فقد يفقد العديد من الفرص بسبب سعيه لإتمام العمل بشكل مثالي وقد يفقد عنصر التواصل مع زملائه بالعمل، وحتى في علاقات الحب والصداقة أحياناً نبحث عن شريك أو صديق كما نتصوّره نحن، لا يخطئ أو يغضب و يمارس حياته بعفوية، متناسين أنّ أكثر ما يُجذّبنا إلى الطرف الآخر ليس لأنّه يُشبهنا بل لأنّه يكمل ما فينا من نقص، فثقافة جودة الأداء جعلت منّا باحثين عن الكمال بمختلف أوجهه، ساعين إلى الوصول إليه مهما كلّف الأمرَ، وجعلتنا نضع معايير صارمة لما يمكن أن يجعلنا سعداء، وحينما لا تتحقّق هذه المعايير فإنّنا نخلق ونتبنّى تَوجّهاتٍ تجعل الأمور تتفاقم حدّتُها سوءاً.

المنطق يخبرنا إنّ السعي وراء المثالية قد يؤدّي بالفعل إلى تحقيقها ولكن غالباً ما يكون العكس صحيح لأن السعي للكمال شيء مكلف، فقد يصل هذا الكمال إلى الوحدة وقد يحيل إلى السجن، والإحباطات التى هو بالغنى عنها.

يقول " جول فرانسوا "، وهو أستاذ في السيكولوجيا الإيجابية، في كتابه : “ تعلّم أن لا تكون كاملاً ” : إنّ الإنسان الباحث عن الكمال لا يستفيد من النجاح لأنّه يكون دائماً غير راضٍ عمّا يحقّقه فبُمجرّد بلوغه الهدف يسعى إلى هدف آخر ولا يستمتع بما حقّقه من نتائج في الهدف السابق، كما أنّ العيش في العالم المثالي يدفع الإنسان إلى  أن يُنكر الألم والحقائق الواقعية بالتالي لا يعتبر الألم والأحداث المؤلمة جزءاً طبيعياً من الحياة وهذا يسبّب له الإحباط وأحياناً الاكتئاب. على حدِّ تعبير " ماريا شرايفر " : " الكمال لا يجعلك تشعر بالكمال، بل يجعلك تشعر بعدم الكفاية " .

لذلك قد تكون واحدة من الحلول الأكثر المنطقيّة أن نخفّض من سقف التوقّعات كي تأتي بنتائج مناسبة للواقع، والتفكير في التصرّفات والأحداث التي حدثت معك، وكيف يمكن أداؤها بشكل أفضل في المحاولة الجديدة، أيضاً جاهد لامتلاك مفاتيح القوّة الثلاثة للناجحين وهي ( التفكير - العمل – التصميم )، فلا يوجد إنسان ناجح وُلد ناجحاً من دون تجارب وإخفاقات، الجميع له بداية أسوأ ممّا تتخيّل، فتقبّل نتائج تجاربك حتّى ولو جاءت بالإخفاقات، واسعَ دوماً من دون جلد الذات، وراجِع مسيرة شخص تحبّه، ستدرك كم خطأً فعله ليصبح ما هو عليه من نجاح، وهذا سيشعرك بالمشاركة الوجدانيّة، وسيقلّل شعورك بالضغط.

في النهاية، التعافي من المثالية ليس وصفة بقدر ما هو رحلة، وأزيدك سرّاً بأنّه "رحلة مُتعبة ممتعة"، ستكتشف فيها ذاتك، ستنهار وستنهض عشرات المرّات ربّما، حتى تبني ذاتك وتتعلّم كيف تثق بها، وتعيش بعفوية وحبّ مع من يحبّك ومع من لا يحبّك، ستصبح نسخة غير متوقَّعة منك لكنّها جميلة ومرنة، واعلم أنّ استمرارك في السعي للشفاء .. شفاء.


شام المداد